العولمة وتدخل الحكومات- ضرورة أم معضلة في تحقيق الرفاهية؟

المؤلف: صدقة يحيى فاضل10.28.2025
العولمة وتدخل الحكومات- ضرورة أم معضلة في تحقيق الرفاهية؟

منذ ما يقرب من ثلاثة عقود، بدأت أمريكا في الترويج لـ "العولمة" في جميع أنحاء العالم، حاملة معها مبادئ نظرية تدعو إلى تعزيز الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان على الصعيد السياسي. كما أنها تشدد على "الخصخصة" وتقليص تدخل الحكومات، بأشكاله المتنوعة، في الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية للشعوب، وذلك بهدف تطبيق النموذج "الرأسمالي" على أوسع نطاق ممكن. وتسعى العولمة إلى حصر دور الحكومات في ما يسمى بـ "المهام الأساسية" فقط، والتي تشمل توفير الأمن، والحفاظ على النظام، وحماية الحريات العامة المتنوعة، وضمان تطبيق القوانين، وإدارة العلاقات الخارجية للدولة.

أما غالبية الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية للشعوب، فمن المفترض أن يتولاها "القطاع الخاص". إلا أن العولمة، بناءً على الاتفاقيات السياسية والاقتصادية التي تأسست عليها، قد تسير في اتجاه يتعارض مع مصالح العديد من الشعوب، خاصة في المجال الاقتصادي. فمعظم حكومات دول العالم الثالث، على وجه الخصوص، لا تزال في أمس الحاجة إلى تدخل حكومي رشيد في الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية لشعوبها، وذلك لكي تتمكن من الانطلاق من براثن الفقر والتخلف نحو آفاق التقدم والازدهار.

إن التدخل الحكومي المحمود يتمثل في سن القوانين العادلة والأنظمة المنصفة التي تنظم الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، والتي تهدف إلى منع استغلال القوي للضعيف، وتلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين المحتاجين، حتى لو استلزم الأمر تملك وإدارة العديد من منشآت الخدمات العامة، ولو بشكل مؤقت. بل إن جميع دول العالم، تقريباً، سواء المتقدمة أو المتخلفة، تحتاج بشكل ماس ودائم إلى قدر من التدخل الحكومي لتحقيق هذه الأهداف النبيلة. والدليل على ذلك هو وجود أحزاب اشتراكية ديمقراطية قوية في جميع الدول المتقدمة. فالحرية الاقتصادية المطلقة يمكن اعتبارها، في معظم الحالات، مفسدة مطلقة، تماماً كما أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة.



وبالإضافة إلى ذلك، فإن الدول الريعية، التي تسيطر حكوماتها على ثروات طبيعية تنتج بكميات تجارية، يتوجب عليها أن تنفق عائدات هذه الموارد على تنمية ورفاهية شعوبها، انطلاقاً من مبدأ الملكية العامة للموارد، وأن الشعوب هي المالكة لما في أراضيها من ثروات طبيعية. وبقدر العائدات المتحققة من هذه الموارد، يتوجب على الحكومة أن تنفق على شعبها في شكل عوائد وخدمات وإعفاءات تنعكس إيجاباً على حياة ورفاهية ونمو شعبها، وتسد احتياجاته الملحة. ولا شك أن ذلك يتطلب تدخلاً حكومياً جاداً ومتواصلاً في الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية للشعب، من منطلق توزيع العائدات بصورها المتعددة المختلفة.

وكلما زادت العائدات النفطية أو غيرها، نسبياً، توجب على الحكومة أن تدير دولة رفاه لصالح شعبها، وبما يخدم قيمه ومصالحه العليا. والجدير بالذكر هنا هو أن الحكومات التي تستمد معظم شرعيتها من قبولها ومن الإنجازات التي تحققها لصالح الوطن والمواطن، تنفذ هذه الإنجازات من خلال الإنفاق الحكومي. وهذا التدخل يعتبر "معضلة" بالنسبة لتيار العولمة الذي يسعى، كما ذكرنا، إلى كف يد الحكومات عن التدخل في الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية لشعوبها، على الرغم من أنه ضرورة ومتطلبات في كثير من الحالات للحيلولة دون سحق الطبقات الدنيا من الشعوب.



وقد أدرك العديد من المفكرين السياسيين والاقتصاديين، الغربيين وغيرهم، هذه المسألة، فرفضوا فكرة حظر التدخل الحكومي بشكل قاطع، ونادوا بضرورة ووجوب هذا التدخل في حالات كثيرة، بما في ذلك حالات الدول الريعية. بل إن معظم هؤلاء يعتقدون أن على كل حكومة أن تبذل أقصى جهدها لتوفير ما يعرف بـ "الحد الأدنى من العيش الكريم" لشعبها، وهو الحد الذي يتمثل، في رأيهم، في توفير الرعاية الصحية الوقائية والعلاجية الأساسية للمواطنين مجاناً، وإجبارية التعليم ومجانيته حتى نهاية المرحلة الثانوية على الأقل، وتوفير فرص العمل لكل القادرين عليه من المواطنين، ومساعدة من لم يجد عملاً بقدر مناسب حتى يعمل، وتقديم المساعدة المناسبة للمحتاجين وغير القادرين على العمل (الضمان الاجتماعي)، وإعانة المواطنين المتضررين من الكوارث الطبيعية والأزمات وغيرها.

ولتمويل عملية توفير هذا الحد الأدنى من العيش الكريم، من الطبيعي والمنطقي أن تعتمد الحكومة على ما قد يكون لديها من عائدات من مورد طبيعي أو غيره، بالإضافة إلى فرض ضرائب على القادرين من مواطنيها عند اللزوم وفي حالة الحاجة الحكومية الماسة للتمكن من القيام بهذا العمل الضروري. وكم طالب المفكرون بأنسنة العولمة ومنع ما قد ينجم عنها من أضرار تلحق بالغالبية المحتاجة، ومن ذلك كف يد الحكومات عن إعانة شعوبها وإلغاء عمليات دعم بعض السلع.



خلاصة القول، مع التأكيد على ضرورة وفائدة تولي القطاع الخاص لأكبر قدر ممكن من النشاط الاقتصادي والاجتماعي للشعوب، لتمكين المبادرات الفردية، فإن وظيفة الحكومات يجب أن تتجاوز "المهام الأساسية" لتشمل القيام بقدر يتناسب مع وضعها وإمكاناتها واحتياجات شعوبها مما يسمى بـ "المهام الضرورية"، والتي تعني التدخل الحكومي في عمليات الإنتاج والتوزيع الاقتصاديين، بما يخدم مصلحة مواطنيها. أما حظر التدخل الحكومي تماماً، أو وقف قيام الحكومات بالمهام الضرورية، فهذه فكرة يجب ألا تستمر طويلاً، مهما كان تيار الخصخصة قوياً، ومهما بلغت قوة رياح العولمة العاتية. فالحظر التام للتدخل الحكومي أمر غير عملي، ويرفضه المنطق والواقع البشري، قبل أن ترفضه المشاعر والمصالح الإنسانية السوية، التي يجب أن تكون لها الأولوية، والتي تمثل العدالة الاجتماعية، والتي تعني محاولات تقليص الفوارق الطبقية والمعيشية بين فئات الشعب المختلفة، إلى أقصى حد ممكن، باعتبار أن المساواة التامة غير ممكنة وغير واردة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة